top of page

النظام الإجتماعي في الدولة العباسية

كان الناس في العصر العباسي طبقتين: الخاصة والعامة، تحت كل منهما طبقات وأتباع وفروع

أولاً: طبقات الخاصة

كان الخاصة خمس طبقات

(١) الخليفة.

(٢) أهله.

(٣) رجال دولته.

(٤) أرباب البيوتات.

أرباب البيوتات

رجال الدولة

أهل الخليفة

الخليفة

فهم الأشراف من غير الهاشميين، ومرجع شرفهم إلى اتصال حبل قرباهم بالنسب النبوي أو بقريش، وكان الخلفاء يراعون جانبهم ويفرضون لهم الأعطية والرواتب ويقدمونهم في مجالسهم، على أن هذه الأنساب كانت أكثر نفعًا لأصحابها في عهد بني أمية منها في أيام بني العباس، ولا سيما بعد ضعف العنصر العربي بقتل الأمين، فلما أفضى الأمر إلى المعتصم قطع رواتب الأشراف في جملة ما قطعه من أعطيات سائر العرب، وربما أعيد بعضها بعد ذلك على غير قياس.

وأما رجال الدولة فنريد بهم الوزراء والكتاب والقواد ومن جرى مجراهم من أرباب لمناصب العالية، وكان أكثرهم في إبان الدولة العباسية من الموالي وخصوصًا الفرس، كالبرامكة وآل سهل وآل وهب وآل الفرات وآل الخصيب وآل طاهر وغيرهم، وكانوا يختلفون نفوذًا وسطوة باختلاف الخلفاء وتفاوت أدوار التمدن، ولكن الوزارة كانت على الإجمال من أوسع أبواب الكسب على ما بيناه في الجزء الثاني من هذا الكتاب.

هم بنو هاشم، وكانوا أرفع الناس قدرًا بعده ويسمونهم الأشراف وأبناء الملوك،٢ فإذا دخلوا على الخليفة جلسوا على الكرسي، وسائر الناس دونهم على الوسائد أو البسط،، وكان الهاشميون، يتولون الأعمال ويقودون الجند ويعينون الخليفة بالرأي والسياسة

فالخليفة صاحب السلطتين الدينية والسياسية١ فأحر بمن كان هذا منصبه أن يعظم الناس شأنه، ويتقربوا إليه بالطاعة وبذل الخدمة والتزلف بالمدح والإطراء، وسيأتي الكلام على الخلفاء ومجالسهم ومواكبهم والآداب المتبعة في مخاطبتهم وغير ذلك في باب أبهة الدولة من هذا الجزء.

ثانياً: أتباع الخاصة

وللخاصة أتباع أخرجوهم من طبقات العامة بما خصوهم به من أسباب القربى والخدمة وهم أربع طبقات :

(١) الجند

(٢) الأعوان

(٣) الموالي

(٤) الخدم

الخدم

الموالي

الأعوان

الجند

أكثرهم في ذلك العهد الأرقاء السود والبيض من الذكور والإناث، وقد اصطلحوا أن يسموا الأرقاء البيض مماليك والسود عبيدًا، ويقسم الكلام في الخدم إلى ثلاثة أقسام: الأرقاء والخصيان والجواري.

الموالي جمع مولى، وهم الخدم والحلفاء في لغة العرب، تم استخدام هذا المصطلح بكثرة في زمن الخلافة الأموية للإشارة إلى المسلمين من غير العرب كالفرس والأفارقة والأتراك والأكراد.

كان للخلفاء وسائر الخاصة من رجال الدولة والأشراف رفاق يصطحبونهم ويجالسونهم ويعيشون في منازلهم ويكون لهم رواتب يقتضونها، ومنهم طائفة الجلساء الذين يجالسون الخليفة أو الأمير، هم رجال من أهل التعقل والثقة يختصهم الخليفة أو الأمير أو الشريف بمجالسته، فيفاوضهم في شئونه ويركن إليهم في مهامه وتكون لهم الدالة عليه، وربما كان بعضهم من مشايخ أهله أو بعض ذوي قرابته.

كان بعض الخاصة من الوزراء والعمال كانوا يجندون رجالًا ينفقون عليهم من أموالهم، وقد يبتاعون غلمانًا ويربونهم للاستعانة بهم على أعدائهم وقت الحاجة ويسمونهم بأسمائهم، وقد يذهب الوزير أو العامل وينتقل جنده إلى غيره ويبقى معروفًا باسمه، فاجتمع في بغداد من الأجناد طوائف كثيرة تنتسب إلى أصحابها، كالساجية والنازوركية والبيلغية والهارونية، وفيهم الأتراك والفرس والبرابرة والأحباش والأكراد.

ثالثاً: أصناف الخدم
1 - الخدم ( الأرقاء)

من دخل من الحامية في أسر المسلمين صار مِلكًا لهم، وكان للمسلمين بعد ذلك أن يطلقوا سراحهم أو يعتقوهم، ولكن الغالب أنهم كانوا يدخلون الإسلام ويصبحون في جملة الموالي، وقد زعم بعض أمراء بني أمية استعباد أهل البلاد المفتوحة عنوة أو اعتبار المسلمين غير العرب من الموالي، ولكن الشريعة الإسلامية لم تجز لهم ذلك، فأنكره العلماء وذوو الرأي فلم يلبث أن رجع عنه من أراده من القواد ورجال الدولة، وقد كانت تصرفات أولئك القواد والأمراء من بين الأسباب التي دفعت إلى الثورة على بني أمية، فلما قامت الدولة العباسية تلاشت هذه النزعات نهائيًّا.

كثرة الأسرى والأرقاء

وتكاثر الأسرى في أثناء الفتوح حتى كانوا يعدون بالألوف ويباعون بالعشرات، اعتبر ما كان من ذلك في الصدر الأول وما تبعه من الفتوح البعيدة في أيام بني أمية، وفي جملة غنائم الحرب، فضلًا عن الأسرى من الرجال، جماعات من النساء والغلمان مما يثقل نقله، فكثيرًا ما كانوا يبيعونهم بالعشرات رغبة في السرعة، ذلك من أسباب تكاثر الرقيق عند المسلمين، غير ما كان يرسله بعض العمال إلى بلاط الخلفاء من الرقيق وظيفة كل سنة من تركستان١٠ وبلاد البربر وغيرهما.

معاملة الأسرى

كانوا في صدر الإسلام إذا ظفروا بغنيمة تولى الأمير قسمتها على القواد، بعد إرسال الخمس إلى بيت المال، ثم اختلف ذلك مع الزمان باختلاف الدول، ففي الدولة الفاطمية بمصر كانوا إذا عاد الجند من حرب ومعهم الأسرى يصل الأسطول بالنيل إلى شاطئ القاهرة فينزلون الأسرى ويطوفون بهم القاهرة، ثم ينزلونهم في مكان كانوا يسمونه المناخ (في جهة الإسماعيلية اليوم) كان مستودعًا للأسرى الذكور، فينظرون فيهم فإذا استرابوا في أحد قتلوه، ومن كان شيخًا لا ينفع ضربوا عنقه وألقوا جثته في بئر كانت في خرائب مصر تعرف ببئر المنامة، ومن بقي يضاف الرجال منهم إلى من في المناخ، ويُمضى بالنساء والأطفال إلى قصر الخليفة، بعد ما يُعطى الوزير منهم طائفة ويُفرق الباقي لخدمة المنازل، ويُدفع الصغار من الأسرى إلى الأستاذين فيربونهم ويعلمونهم الكتابة والرماية ويسمونهم إذ ذاك «الترابي»، وقد يرتقي أولئك الصبيان إلى رتب الأمراء، ولم يكن استخدام الأسرى على هذه الصورة خاصًّا بالمسلمين، بل هي عادة كانت مرعية في تلك الأعصر، فمن يقع من المسلمين في أيدي أعدائهم كان حظهم الاسترقاق حتى يفتديهم المسلمون، وكان للخلفاء عناية في فكاك الأسرى يبذلون في سبيله المال أو يعطون أسرى عندهم على سبيل المبادلة.

أصناف الأرقاء

وكانوا إذا تكاثر الأرقاء عند أحدهم وأراد استخدامهم في منزله جعل عليهم نقيبًا يتولى النظر في شئونهم يسمونه الأستاذ، على أن الغالب في الغلمان إذا كثروا عند أمير أن يتخذهم جندًا يحرسونه فيعلمهم الحرب والقتال،أما الباقون من الأرقاء للخدمة في البيوت فيعلمونهم الصنائع اللازمة لتدبير المنزل، فمنهم الفراش والطباخ والخازن والوكيل أو النقيب والبواب والملاح والركابي وغيرهم،ومنهم الوصيف والمملوك، وفيهم التركي والفارسي والبربري والزنجي والصقلبي بين مجلوب ومولد من الذكور والإناث مما لا يُحصى. وإذا زادوا عما يحتاجون إليه في الخدمة أو الحراسة أو الحماية اتخذوا الغلمان منهم زينة لمجالسهم، وكان يفعل ذلك أهل السعة واليسار ولا سيما الخلفاء.

2 - الخصيان

​ الخصاء عادة شرقية كانت شائعة قديمًا بين الآشوريين والبابليين والمصريين القدماء، وأخذها عنهم اليونانيون ثم انتقلت إلى الرومان فالإفرنج، ويقال: إن أول من استنبطها سميراميس ملكة آشور نحو سنة ٢٠٠٠ قبل الميلاد، وكان المظنون أن الخصاء يذهب بقوة الرجولية، وفي التاريخ جماعة من الخصيان اشتهروا بالشجاعة والسياسة، وتولوا مناصب مهمة في أزمنة مختلفة

وللخصاء أغراض أشهرها

استخدام الخصيان في دور النساء غيرةً عليهن، فلما ظهر الإسلام وغلب الحجاب على أهله استخدموا الخصيان في دورهم، وأول من فعل ذلك يزيد بن معاوية، فاتخذ منهم حاجبًا لديوانه اسمه فتح، واقتدى به غيره فشاع استخدامهم عند المسلمين، مع أن الشريعة الإسلامية أميل إلى تحريمه، على ما يُؤخذ من حديث رواه ابن مظعون، وراجت تجارة الصقالبة في إبان التمدن الإسلامي، وكل ما كان يفد على المملكة الإسلامية منهم يستجلب من الأندلس؛ لأنهم كانوا يخصون بالقرب منها، غير ما يحملونه من الصقالبة من جهات خراسان مما يسبيه الخراسانيون ويحملونه للبيع؛ لأن بلد الصقالبة طويل يسبيه الإفرنج من الغرب والخراسانيون من الشرق

3 - الجواري

تكاثرهن

للجواري شأن كبير في تاريخ التمدن الإسلامي لا يقل عن شأن العبيد والموالي، وأصل الجواري ما يسبيه الفاتحون في الحرب من النساء والبنات، فهن ملك الفاتحين ولو كن من بنات الملوك أو الدهاقين، يستخدمونهن أو يستولدونهن أو يتصرفون في بيعهن تصرف المالك بملكه، ولما أفضت أحوال المسلمين إلى الترف والقصف وتدفقت الأموال من خزائن الخلفاء والأمراء جعلوا يتهادونهن كما يتهادون الحلي والجواهر.

أصناف الجواري

فلما تعود الناس اقتناء الجواري اشتغل النخاسون في استجلابهن من أقصى بلاد الترك والهند والكرج والخطا وأرمينيا والروم والبربر والنوبة والزنج والحبشة صغارًا وكبارًا، يربونهن على ما تقتضيه مواهبهن أو جمالهن، فينبغ منهن الخدم والحواضن والمواشط والولائد والمغنيات والعوادات والعالمات وأمهات الدهاء والسياسة وغير ذلك، وفيهن البيضاء والسمراء والحمراء والبربرية والزنجية، بين مولدة في البصرة أو الكوفة أو بغداد ممن يفصحن العربية، ومجلوبة من أرضها أو سبية أخيذة على حالها تتكلم التركية أو الفارسية أو الرومية أو الهندية أو البربرية، ولا تزال، ولو تعربت، أعجمية اللسان، والمولدة أثمن من الجليبة، وتختلف أثمانهن باختلاف الصناعة أو الجمال وباختلاف الغرض من ابتياعهن للتوليد أو الغناء أو الخدمة، وفي الجليبات النصرانية واليهودية والمجوسية، لكل منهن شأنها في دينها حتى يعيدن أعيادهن بما يستلزمه العيد من الزينة الدينية كالصلبان والأحجبة ونحوها؛ ذكر أحمد بن صدقة أنه دخل على المأمون في يوم الشعانين وبين يديه عشرون وصيفة جلبًا روميات مزنرات قد تزين بالديباج الرومي وعلقن في أعناقهن صلبان الذهب وفي أيديهن الخوص والزيتون.وقد صنفوا كتبًا في هذا الموضوع بينوا فيها الصفات المستحسنة في كل صنف منهن، وخلاصة ذلك قولهم: من أراد النجابة فبنات فارس، ومن أراد الخدمة فبنات قيصر، ومن أراد غير ذلك فبنات بربر، والمولدات والزنجيات للزمر، والحبشيات للحفظ وخزن المال، والنوبة للطبخ، والأرمن للتربية والرضاع، ومن أقوالهم: الوجوه في الترك، والأجسام في الروم، والشعور في الخطا وفارس، والعيون في الحجاز، والخصور في اليمن.

تعليم الجواري

وكان تعليم الجواري وتربيتهن من أبواب الكسب الواسعة في ذلك العصر، فيذهب أحدهم إلى دار الرقيق يبتاع جارية يتوسم فيها الذكاء، فيثقفها ويرويها الأشعار أو يلقنها الغناء أو يحفظها القرآن أو يعلمها الأدب أو النحو أو العروض أو فنًّا من فنون المنازل ثم يبيعها، وكان يفعل ذلك على الخصوص المغنون المشهورون بدقة الصناعة كإبراهيم الموصلي وابنه إسحاق، فربما ابتاع أحدهم الجارية بمائة دينار فإذا علمها وثقفها باعها بخمسمائة أو ألف دينارًا، وربما نبغت منهن من تجيد الشعر والغناء أو فنون الأدب والأخبار، فيقصدها أهل الأدب وذوو المروءة للمذاكرة والمساجلة في الشعر وغيره، وقد ينبغن في حفظ القرآن حتى كان منهن عند أم جعفر مائة جارية لكل واحدة ورد عشر القرآن، وكان يسمع في قصرها كدوي النحل من القراءة ، فتعددت الجواري في دور الكبراء وتسابق أهل الترف إلى التفنن في تزيينهن

نفوذ الجواري

وطبيعي في ربات الحسن أن يكن نافذات الكلمة؛ لأن الجمال قوة والحب سلاح، ولذلك كان أرباب الدهاء من الخلفاء والأمراء يتباعدون عن الجواري، إذا أُهدي إلى أحدهم جارية لم يلتفت إليها، ولا سيما مؤسسي الدول كمعاوية والمنصور وعبد الرحمن الداخل، فاشتهر المنصور بكرهه للهو، وكان عبد الرحمن إذا أهداه أحد جارية ردها، وعكس ذلك خلفاء أواسط الدولة إبان الترف والقصف والرخاء، فإنهم كانوا يتمادون في حب الجواري حتى يتسلطن على عقولهم، كما فعلت حبابة بيزيد بن عبد الملك الأموي حتى كادت تذهب بعقله وشغلته عن مهام الخلافة، وكما فعلت ذات الخال بالرشيد، فإنها ملكت قياده حتى حلف يومًا أنها لا تسأل شيئًا في ذلك اليوم إلا قضاه لها، فسألته أن يولي حمويه الحرب والخراج بفارس سبع سنين، ففعل وكتب له عهده به وشرط على ولي عهده بعده أن يتمها له إن لم تتم في حياته،٣٢ وكثيرًا ما كان الخلفاء والأمراء يشتغلون بالجواري عن رعاية الملك ولا سيما المغنيات، ولذلك كان رجال الحيلة يستخدمونهن للجاسوسية أو نيل رتبة أو منصب، وكان المأمون يدس الوصائف هدية ليطلعنه على أخبار من شاء. ويزداد الجواري نفوذًا وسطوة إذا صرن أمهات كما صارت الخيزران وغيرها من أمهات الخلفاء.

رابعاً: العامة

طبقات العامة

فرغنا من طبقات الخاصة وأتباعهم، ونحن متكلمون عن العامة وهم أكثر عددًا وأبعد عن الحصر؛ لأنهم لفيف من أمم شتى ولا سيما في بغداد في إبان عمارتها، وقد تقاطر إليها المرتزقون والمحترفون والمستجدون من أطراف المملكة الإسلامية، بين صانع وبائع وفيهم العربي والنبطي والفارسي والخراساني والتركي والسندي والرومي والكرجي والأرمني والكردي والقبطي والبربري والنوبي والزنجي والأندلسي وغيرهم، وفيهم أهل الحرف الراقية، وتجار السلع والأقمشة والجواهر والرقيق وباعة الطعام والشراب، فضلًا عن الأدباء والشعراء والحكماء والمغنين والندماء مما يطول شرحه ويعسر حصره، على أننا تسهيلًا للبحث نقسم العامة على الإجمال إلى طبقتين كبيرتين: الأولى طبقة المقربين من الخاصة، والثانية طبقة الباعة وأهل الحرف والرعاع وغيرهم.

​الطبقة الأولى: المقربون من الخاصة

نريد بهذه الطبقة نخبة العامة الذين تسمو بهم نفوسهم أو عقولهم إلى التقرب من الخاصة بما يعجبهم أو يطربهم، فيستظلون بهم ويعيشون من عطاياهم أو رواتبهم أو يرتزقون من بيع سلعهم لهم، وهم أربع فئات: أهل الفنون الجميلة والأدباء والتجار والصناع.

1 - أهل الفنون الجميلة

المصورون

الفنون الجميلة — ويسميها العرب «الآداب الرفيعة» — ثلاثة: التصوير، والشعر، والموسيقى، فالتصوير لم يكن له شأن كبير في التمدن الإسلامي لورود القول بتحريمه، وإنما كانوا يصورون ما يصورونه في الدولة الأموية والعباسية يقلدون به ما بين أيديهم من تصوير الروم والفرس، أو ما جاء به السلاجقة من صناعة المغول من أواسط تركستان، على أن التصوير أزهر، وارتقى في بلاد فارس بعد اجتماع كلمة الفرس تحت سيطرة المغول على أثر فتح هولاكو بغداد سنة ٦٥٦ﻫ فإن تلك الصناعة أخذت في الارتقاء من ذلك الحين؛ لأن المغول المشار إليهم أتوا معهم بمهندسين من أهل الصين تولوا هندسة حصار بغداد، ومعهم جماعة من أرباب الفنون الجميلة والرياضيات والصناعات الدقيقة، فاستفاد الفرس منهم وأتقنوا هذه الفنون وفي جملتها التصوير ونشروه في سائر ممالك المسلمين، وزينوا به كتبهم وجدران قصورهم ومنسوجاتهم في بلاد فارس ومصر وتركستان وغيرها.

الشعر والموسيقى

أما الشعر والموسيقى فقد راجا وتقرب أصحابهما من الخلفاء وسائر طبقات الخاصة واكتسبوا بهما الأموال الطائلة، وقد بينا في الجزء الثالث من هذا الكتاب ما هو الشعر العربي وما أصله، وما كان شأنه في الجاهلية وما آل إليه بعد الإسلام، من عصر الراشدين فالأمويين فالعباسيين وسائر دول الإسلام، وتحدثنا عن جمع الشعر ورواته وطبقات الشعراء في الإسلام وأشعارهم، والشعر وتأثيره في الدولة والشعر والخلفاء والأمراء وغير ذلك.

2-العلماء والفقهاء والأدباء

هم طائفة من العامة تقربوا إلى الخلفاء بما يلذ لهم من سماع الأخبار والنوادر، أو النظر في علوم تلك الأيام الدينية أو اللسانية أو الأدبية أو التاريخية، ويدخل في ذلك الفقهاء والمحدثون والنحاة والأدباء من أصحاب الأخبار، كالأصمعي وأبي عبيدة والكسائي والفراء وغيرهم، وكان للخلفاء رغبة في مجالستهم وسماع أبحاثهم، فكانوا يقربونهم ويعظمون شأنهم ويجيزونهم ويفرضون لهم الأعطية والرواتب، على ما سنبينه في باب أبهة الدولة،.واقتدى بالخلفاء وزراؤهم وأمراؤهم، كالبرامكة وآل الفرات فإنهم أغدقوا الأموال على هؤلاء فنشطوا العلم وأهله حتى صار العلم صناعة يرتزق بها أصحابها من الناس، ويدخل فيما تقدم المترجمون من غير المسلمين، وفيهم السريان والروم والفرس وغيرهم ممن نقل العلوم القديمة إلى اللغة العربية في العصر العباسي، فإنهم فئة من أهل الذمة قربهم الخلفاء وأكرموهم من أجل علمهم.

3 - التجار

نريد بالتجار باعة السلع الثمينة التي تقتضيها الحضارة، كالمجوهرات والمصوغات والرياش الثمين والثياب الفاخرة والآنية والرقيق، وأكثر ارتزاقهم من الخليفة وأهله وأهل دولته وسائر الخاصة من جلسائه وأعوانه، وكانوا يقيمون في بغداد والبصرة وغيرهما من المدن الإسلامية، وأكثرهم من جالية الفرس والروم وغيرهم من الأمم التي اشتهر أهلها بالعناية بهذه الطرف، كانوا يحملون إلى دار السلام أصناف التجارة للارتزاق مما يتدفق من خزائن الدولة في عصر الثروة. فكانوا يحملون الياقوت والماس من بلاد الهند، واللؤلؤ من البحرين، والعقيق والعاج من الحبشة، والأدهان والزيوت العطرية من نيسابور، ونسيج الكتان من شيراز، وطراز الوشي والأقمشة المنسوجة من الشعر التي تصنع منها ثياب مثقالية يلبسها الخليفة ورجال الدولة، والكلل المرتفعة والستور المعلمة من القز، هذه كلها من فسا، والبسط والنخناخ والمصليات والزلالي من جهرم، والستور والمقاعد من دشت، وأحسن أصناف البسط والتكك الرفيعة والوسائد والأنماط والمقاعد من أرمينية، وكان لهم صبغ من القرمز يصبغون به الصوف لا مثيل له، والعتابي والوشي وسائر ثياب الحرير من أصفهان، والثياب المنيرة من الري، والأبريسم ومطارف القز، وطبقات الخشب من طبرستان ونيسابور، والسمور الأسود وجلود الخز وجلود الثعالب السود من بلاد الروس، وغيرها.

4 - الصناع

أما الصناعة فقد أخذوا منها بنصيب كبير؛ لأنهم كما برعوا بالاتجار في السلع برعوا أيضًا في صناعتها، وارتقت الصناعة عندهم بتوالي الأجيال، حتى فاقوا في بعضها البلاد الأخرى وامتازوا بصناعات خاصة بهم، فهم الذين نشروا السكر في العالم، نقلوه من مواطنه في الهند إلى بلاد فارس وأنشأوا له المعامل واستخرجوا منه أصنافًا لم يكن لها مثيل،٦٠ وهم أتقنوا صناعة الورق ونشروها في العالم، وعنهم أخذها أهل أوربا بطريق الأندلس،وقد امتازت بعض مدن الأندلس بصناعات كانت تفاخر بها صناعات المشرق، فكانوا يصنعون في مرسية وشيًا مذهبًا في غاية الإتقان، وفيها أيضًا معمل للبسط لم يكن له نظير وآخر للأسرة المرصعة، وكان في مالقة معامل للزجاج الغريب وفخار مزيج مذهب ونوع من الفسيفساء المفضضة على شكل خاص، ولهم اختراع في صناعة الزجاج يؤثرونه لهم، فذكروا أن أول من استنبط صناعة الزجاج من الحجارة عباس بن فرناس حكيم الأندلس

5 - المزارعون أهل القري

فالمزارعون أو الأكرة يتألف منهم معظم سكان المملكة وهم أصل ثروتها، وأكثرهم من أهل الذمة يقيمون في القرى، إلا من أسلم منهم فينزل في المدن، وكانوا يتكلمون لغات البلاد الأصلية: السريانية والآرامية واليونانية في العراق والشام، والقبطية بمصر، والفارسية في بلاد فارس، والتركية في تركستان بما وراء النهر، وأخذ العنصر العربي يتغلب على عناصرهم، واللغة العربية تتغلب على ألسنتهم، والإسلام يتغلب على أديانهم، حتى ساد الإسلام عليهم جميعًا، وعمت العربية البلاد الواقعة غربي دجلة وهي العراق والشام ومصر وإفريقية والسودان، وصارت تعد بلادًا عربية وأكثر أهلها مسلمون، وانقرضت اللغات التي كانت منتشرة فيها إلا بقايا قليلة من السريانية في بعض القرى المتباعدة من الشام والعراق، أما شرقي دجلة بفارس وتركستان والهند فقد ساد الإسلام أيضًا، وانتشرت اللغة العربية بين أهل العلم، ولكن ألسنة أهل البلاد ظلت حية يتفاهمون بها إلى الآن

6 - العامة سكان المدن

هم نفر ممن يؤمون المدن من أهل المطامع وطلاب المكاسب، بالتجارة أو الجندية أو الأدب أو الشعر، وتقعد بهم نفوسهم عن اللحاق بأهل الهمم وأصحاب القرائح فيضطرون إلى احتراف ما يعيشون به مما لا يحتاج لهمة أو رأي، ولو أردنا الرجوع إلى أصول عامة بغداد مثلًا لرأيناهم أخلاطًا من مولدي العرب والفرس والترك والديلم والروم والنبط والأرمن والجركس والأكراد والكرج والبربر وغيرهم، ولكنهم يعدون عربًا لتغلب اللغة العربية على ألسنتهم.

وعامة المدن طبقتان: الطبقة الأولى المرتزقون بالصناعة والتجارة، وهم طائفتان:


(١) الصناع أصحاب الصناعات اليدوية كالحدادين والحياكين والخياطين والحلاقين والنجارين والصيادين والخبازين والطحانين ومن جرى مجراهم.

(٢) الباعة الذين يبيعون البقل واللحم وغيرهما من أصناف المأكولات على أنواعها وبعض المنسوجات والسلع الصغيرة، وهم طوائف كثيرة كالزياتين والبقالين والجزارين وباعة الأقمشة والطحين والخضر ونحوها.


والطبقة الثانية رعاع يرتزقون من النهب واللصوصية

وهم أصناف كثيرة نشأت في بلاد الإسلام على أثر الفتن والانشقاق بين أهل الدولة لا يستطيع أهل هذا الجيل تصور أمثالهم لبعد ذلك عن مألوفهم، إلا الذين أدركوا متشردي بيروت المعروفين بالزعران، وهم طائفة من أهل البطالة كانوا يحترفون السرقة والتحرش بأبناء السبيل، والزعران مثال صغير لرعاع ذلك العصر، فقد كان في بغداد وغيرها من مدن الإسلام طوائف كثيرة تُعرف بالعيارين والشطار والصعاليك والزواقيل ونحوهم، كثيرًا ما استفحل أمر بعضهم حتى تعجز الحكومة عنهم وقد تستنجدهم في بعض حروبها.

العيارون

ظهور العيارين ببغداد في أواخر القرن الثاني للهجرة، وكان لهم في الفتنة بين الأمين والمأمون شأن كبير؛ لأن الأمين لما حوصر في تلك المدينة وعجز جنده عن الدفاع استنجد العيارين، وكانوا يقاتلون عراة في أوساطهم المآزر وقد اتخذوا لرءوسهم دواخل من الخوص سموها الخود ودرقا من الخوص والبواري قد قرنت وحشيت بالحصى والرمل، ونظموهم نظام الجند على كل عشرة عريف، وعلى كل عشرة عرفاء نقيب، وعلى كل عشرة نقباء قائد، وعلى كل عشرة قواد أمير، ولكل ذي مرتبة من المركوب على مقدار ما تحت يده، ومعهم أناس عراة قد جعل في أعناقهم الجلاجل والصدف والأحمر والأصفر ومقاود ولجما من مكانس ومذاب، وبلغ عددهم يومئذ خمسين ألف وساروا للحرب يضربون الأعداء بالمقلاع والحصى، وكانوا أهل مهارة في ذلك فأبلوا بلاء حسنًا، لكنهم لم يثبتوا أمام المجانيق والجنود المنظمة، فعادت العائدة عليهم وقُتل منهم خلق كثير

الشطار

هم طائفة أخرى من الرعاع كانوا يمتازون بملابس خاصة بهم ولهم مئزر يأتزرون به على صدورهم يُعرف بأزرة الشطاروكانوا أكثر انتشارًا في المملكة الإسلامية من العيارين وأطول بقاء منهم، وظهروا في الأندلس ولهم فيها نوادر وتنكيتات وتركيبات وأخبار مضحكة تملأ الصحف لكثرتها وتضحك الثكلى،٧٠ على أن اسمهم كان يختلف باختلاف البلاد، فهم يعرفون في العراق بالشطار، وفي خراسان يسمونهم سرا بداران، وفي المغرب الصقورة، وسماهم ابن بطوطة «الفتاك»، وذكر تفشيهم في أيامه (القرن الثامن للهجرة) وأشار إلى اجتماعهم على الفساد وقطع الطرق وتكاثرهم في نواحي سبزوار، حتى هجموا على مدينة بيهق وملكوها وملكوا غيرها وجندوا الجنود وركبوا الخيل وولوا أحدهم سلطانًا عليهم، وانحاز إليه العبيد يفرون من مواليهم فكل من جاء من هؤلاء أعطاه ذلك السلطان مالًا وفرسًا، وإذا ظهرت منه شجاعة أمَّره، إلى آخر ما ذكره.٧١

ولم يكن الشطار وغيرهم من أهل الشرور يعدون اللصوصية جريمة، وإنما كانوا يعدونها صناعة ويحللونها باعتبار أن ما يستولون عليه من أموال التجار الأغنياء زكاة تلك الأموال التي أُوصي بإعطائها للفقراء،٧٢ وكان أولئك اللصوص إذا شاخ أحدهم ربما تاب فتستخدمه الحكومة في مساعدتها على كشف السرقات، وكان في خدمة الدولة العباسية جماعة من هؤلاء الشيوخ يقال لهم: «التوابون»، على أنهم كثيرًا ما كانوا يقاسمون اللصوص ما يسرقونه ويكتمون أمرهم


ااروابط

7 views0 comments

Recent Posts

See All

أيوب بن حبيب اللخمي

الألقاب أيوب بن حبيب اللخمي، هو خامس الولاة الأمويين في الأندلس، وابن أخت أول ولاتها موسى بن نصير من هو؟ أيوب بن حبيب اللخمي ( 716 – 716...

عبد العزيز بن موسى بن نصير

يعتبر بدايه ولايه عبد العزيز بن موسى بن نصير هي ميلاد عصر الولاه، عبد العزيز بن موسى بن نصير، هو أول ولاة الأندلس، في إسپانيا والپرتغال...

Comentários

Avaliado com 0 de 5 estrelas.
Ainda sem avaliações

Adicione uma avaliação
bottom of page